قبل خمسة وثمانين عاماً وُلدت ناديا بشير ابنة بلدة دوما في قضاء البترون. في عز ورفاهيّة عاشت حتّى اليوم الأخير من حياتها قبل أن تعانق الغياب. وجهها الملائكيّ لم يأكل العمر من نضارته، بقي كإشراقة الصّباح حتّى اللّحظات الأخيرة، قبل أن تمضي بلا سؤال ولا جواب. من عرف ناديا بشير سيّدة المجتمع الرّاقية عرف خطواتها الملهوفة ليل نهار لمساعدة المحتاجين الذين كانت تبحث عن وجوههم وتحاول أن تنقلهم إلى رحاب الطمأنينة والحياة.
بسرعة احمرّ خدّا ناديا عندما جاءها فريديرك عارضاً عليها ان يعطيها من قلبه بلا حدود. كان فريدريك بدراً في حياة ناديا: استراحت في بستانه بحبّ وهناء قبل أن يختفي من دائرة الضّوء. انقضّت عليه طيور بريّة في زمن الحرب الأهليّة، فضاع في لجّة الموت.
غاب فريديرك تاركاً لناديا أطفالاً ثلاثة ونهراً من الدّموع والألم. بسرعة لملمت ناديا مصيبتها، وأدركت أنّه يجب عليها أن تكون لأطفالها أكثر ممّا يجب أن تكون لنفسها، فسهرت على تربية أولادها وكانت بالنّسبة لهم كالماء في الحياة. كانت نادْيا بارعة في فكّ شيفرة كلّ الوجوه الملتبسة وإدارة شؤون ما تركه زوجها من بعده.
في علاقتها بأحفادها كانت ناديا سياج الرّعاية والحنان حولهم. هم اليوم يشتاقون إلى ابتسامتها التي كانت تشعّ من روحها، وصدمة الغياب لن يستطيعوا التّخلّص منها بسهولة. أمّا أولادها فسيبكون طويلاً بصمت وغيمة الحزن لن تفارقهم.
في حضورها في المجتمع كانت سيّدة الكلمة الأنيقة. أصْدقاؤها ومعارفها لم يصدّقوا حتى اليوم أنّ هذه كانت نهايتها، وأنّ جسدها ووري في التّراب في لحظة لونها الغبار، ورقص فيها الذئب على رصيف البحر.
في ذلك النّهار كانت ناديا على سرير المرض في المستشفى. كانت قد بدأت تتعافى من إعياء أصابها. استفاقت في الصّباح، كان وجهها ينطق بالرّضى. لم تكن تدري أنّه بعد ساعات سيتحوّل كلّ شيء حولها إلى مشهد فظيع مليء بالقهر والانكسار في مشهد دجّنه الموت تماماً. بلحظة تحوّل المستشفى الذي كانت فيه إلى ساحة شوّهها الدّمار.
موت ناديا بالطّريقة التي ماتت فيها اعتبره أهلها فيه الكثير من الهوان. نُقلت إلى مستشفى آخر من دون إعلامهم بالأمر، وبإسم آخر ومن دون إرفاق ملفّها الطّبي معها. ما جعل الاطبّاء في المستشفى الذي نُقلت إليه عاجزين عن تقديم ايّ علاج لها، فكان أن دخلت في غيبوبة تامّة استمرت خمسة أيّام لتغيب بعدها كما تغيب الوردةُ في الإناء.