أول ماتعرفه عن محمد دمج أبن الثلاثة والعشرين عاماً، أنه كان ثورة من الحماس والنخوة. لم يكن يتردد في مد يد العون لكل طالب مساعدة. ابناء بلدته "برجا" لم يألفوا غيابه بعد، فهو كان معهم في كل المناسبات. في مأتمه مشى الكبير والصغير وراء النعش، وبعضهم قال:"أن برجا بلا محمد دمج هي كأرض بلا تراب ولاماء". صغيراً كان لايزال، يداه لا تقويان على شيل الحجر، لم يتجاوز الثالثة عشرة من العمر. عندما نزل ألى ميدان العمل ليساعد والده في عمله في الورش، بسرعة ووسط ذهول الجميع أصبحت قيادة الجرافة أمراً عادياً بالنسبة له، يعمل عليها يحرك مقودها بيسر وسهولة، وكأنه سائق عتيق اكل عليه الدهر وشرب.
لم تكن حياة محمد دمج سهلة، فهو مايكد ان يأتي ألى البيت ليغسل تعبه من شقاء العمل، حتى يحمل نفسه من جديد متوجهاٌ صوب مشهد مختلف، تلميذ هو مقارعته للدبش والصخور لم تنسه الكتاب والقلم.
ياليت كل ألاحلام تتحقق، وينال التلميذ المجتهد كل مبتغاه من الشهادة التي يتعب من اجلها. الدخول إلى الجامعة حلم لم يتحقق بالنسبة لمحمد غلبته ظروف مادية قاهرة. عدم دخوله إلى الجامعة لم ينقله إلى ضفة اليأس،في المدرسة المهنية درس واجتهد، ونال شهادة في البناء والاشغال.
وكأن الحياة غضب يثور في بعض الاحيان على من يستحق الحياة، هكذا هي حياة محمد دمج. بعد تخرجه بحث كثيراً عن عمل أمن ومنتج، فلم يوفق في أيجاد فرصة عمل. أخيرأ جاء من يعرض عليه عملاً في المرفأ، مراقباً على الشاحنات في أحدى شركات النقل براتب وقدره ثمان مئة الف ليرة شهريا. فقبل تلبية لحاجته المادية، في عمله في المرفاء كان محمد صديقاً للجميع. كل مشاكل سائقي الشاحنات كانت تتجمع عنده، فالعمل مع اشخاص متنوعي الطباع ليس سهلاً، ومع ذلك كان محمد بارعاً في إيجاد مخرج لكل مشكلة، لدرجة انه اصبح تسيير ألامور من دونه شقاء وتعب على رب العمل. قبل يومين من الرحيل، وكأنما أحس محمد ان لهيباً سينبع من جهة البحر ممزوجا برائحة الموت مصحوبا بالصراخ والرعب، قال لوالدته:"لم اعد اريد هذا العمل. اشعر ان الموت به جوع قديم ألي وهو ينتظرني هناك."
يوم الرابع من أب كان المصير وكانت الحكاية. أتصل به رب العمل طلب منه تقديم موعد حضوره الى الساعة الرابعة لضرورة في العمل. كانت الساعة السادسة عندما صدق الظن والحس.
بعد يومين من البحث، كان محمد نائماً في سيارته، وقد طمرته الجثث والانقاض.
سافر محمد انزلق في هوة ملتهبة بالنار.
قتله الصراع من اجل لقمة العيش، ولكن وجهه لم يسقط فهو مازال يملأ المسافات بين اصدقائه ومحبيه.