"زيّان النهار وقلمها"، كلمات كان يرددها ابن الصحافي الكبير "إلياس الديري" وهو يصف أباه بحديثٍ معه بعد الحادثة التي تعرض لها جراء انفجار مرفأ بيروت، كواحدٍ من أقوى الانفجارات غير النووية في التاريخ الحديث، والذي تسبب في تدميرٍ واسع النطاق في منطقة المرفأ والمناطق المجاورة.
إلياس الديري اسمٌ ارتبط بجريدة النهار، وهو من أقدم الصحافيين بالجريدة. لم يكن يعلم أنَّه سيأتي يوم يتركُ فيه قلمَه، ويحفر بذاكرة التاريخ أنه من النّاجينَ في ذلك الانفجار الذي سبب دمارًا هائلًا للمباني والمنشآت والمستشفيات، وأن تُكتَب قصته في حين كان هو من يوثّق قصص البلد وأحداثها. سرد ابنه الذي كان رفيقه في ذلك النهار المؤلم الحادثَةَ مواسيًا بيروت بجِراحها التي لم يسبق أن رآها في تلك الحالة حتى في زمن الحرب الأهليّة ودمارها.
كَيَومِهِ الاعتياديّ، يذهب إلياس إلى "النهار" يكتب مقالاته، وكان على وشك الانتهاء من كتابة روايته الاخيرة بعنوان "رحيلُ العاشق القديم" ويكتب مذكراته. هذا هو إلياس لطالما كان القلم سلاحه، فيروّض الكلمات لأجل القضية التي يكتب عنها، القلم الذي لم يجفَّ إلا أن أتى ٤ آب، اليوم المشؤوم حين اندلع الحريق في المرفأ ودوّى الانفجار عند الساعة ال 6:07 عصرًا وضرب العاصمة، الياس الديري الذي كان واقفاً يراقب النيران المشتعلة من شباك منزله في الاشرفية شهد هذا الإنفجار الذي نقله من مكانٍ الى آخر بلمحة البصر، فتغيّر المشهد و كأن المعركة انتقلت إلى منزله، فتحطم أثاث المنزل، وانصبغ المكان ببقع الدماء. نظَرَت زوجته إليه وقَد كانت على بُعد جولةٍ عنه في هذه المعركة، وعلى الرغم من ذلك والألم، إلا أنها حاولت مساعدته.
وصل أولاده بعد الدمار الذي حدث، غير قادرين على تصديق ما جرى في ذلك اليوم المشؤوم مع حجم الأضرار في المنزل، الذي كان معتاداً على لقاءاتٍ سياسيةٍ سلمية ونقاشاتٍ ثقافية. لم يكن يوماً مجهزاً ليصبح ساحة حرب، ويستذكر ابن إلياس بظل هذا اليوم المشؤوم بتاريخ لبنان والذي لم يسبق أن شهدَ مثله على الرغم من الحروب والمعارك الطاحنة التي مرَّت على هذا البلد، قولٌ كرَّره أكثر من مرّة "الحمد لله على نعمة الاتصالات" فَلَولاها لكانت الأضرار مضاعفة.
بالنسبة لأولاد الياس الديري لا تزال عقارب الساعة واقفة عند ال 6:07 معتقدين أن الياس قد لا يُكمل معهم الطريق. وعند وصولهم إلى المستشفى، أدخَل دكتور من مُحبّي الياس وقصَد إسعافه بثوبه الأبيض كالملاك المرسل، آخذًا على عاتقه مسؤولية إعادته الى الحياة وطمأنة أولاده. الأمل لم يفارق الياس أبدًا، فَكان أقوى من الموت والضعف، تجاوب مع الإسعافات و نجا كالفارس المغوار من أصعب معركةٍ بتاريخه.
وقد نُقل يومها الياس الى مستشفى "ماريوسف" الذي كان يستقبل جرحى فوق طاقة استيعابه، بعد تعطيل الخدمات الصحية في العديد من المستشفيات في بيروت بعد تعرضها لانهيارٍ شبه كلي، قبل أن ينتهي به المطاف في مستشفى الحايك.
أخبره الدكتور عن إصابات جسمه البليغة ولكن طمأنه عن استقرار حالته. تكفّلت الدولة بمبلغٍ لا يُذكر من علاج إلياس الديري والذي لا يزال سارياً الى اليوم من أدويةٍ وجلسات فيزيائية. عزيمة إلياس الديري هزمت الموت وأعادته إلى الحياة، وإنّ تلك الحادثة تحمل رمزية كبيرة، طابعُ ذلك الانفجار وسامٌ على كل من نجا من المصابين ونعوات على ضحاياه. لن ينسى إلياس أن قلمه بقي في لحظة الانفجار، ولكن ذاكرته ستظل تذكره ويكتب في ذهنه نهايةً لروايته ومقالًا لنفسه وبخطٍ عريض على مذكراته كنت ولا تزال"زيّان النهار".