ليديا فرعون

ليديا فرعون، السيدة الرزينة والانيقة هكذا يعرّف عنها جيرانها في المبنى الذي تسكنه في منطقة المدوّر قبالة مرفأ بيروت منذ ان أقترنت بزوجها عصام فرعون قبل حوالي الخمسين عاماً. أنصرفت ليديا الى الاهتمام بعائلتها المؤلفة من إبنتين اللتين حصلتا على شهاداتٍ عالية، واثبتتا جدارتهما في الميدان المهني.

من يعرف ليديا يعرف حبها للمطالعة وسماع الموسيقى وحماسها للعمل الاجتماعي. لكن اليوم، تغيّرت حياة ليديا، فهي لم تعد تسمع ما يدور حولها، كل ما تستطيع القيام به هو أنها تراقب فقط بعينيها، وتحاول أن تفهم ما يجري من أحاديث.

ان عاصفة النار والدم التي هبّت في ذلك الثلاثاء الأسود لم تخطف سمعها فقط بل الهناء ايضاً من عائلتها، فهي كانت العين الساهرة على الجميع، تراقب وترعى. في ذلك النهار الذي خرج فيه الاجرام من عنبره. كانت ليديا ممدةً على سريرها ترتاح من عناء نهارٍ أمضته في تدبير شؤون منزلها، بينما زوجها كان يعمل على الحاسوب خلف مكتبه. كانا وحدهما في المنزل حين وقعت الكارثة. لم يكونا يدريان أن ألسنة النار بدأت تأكل محتويات العنبر رقم 12 على بعد أمتارٍ منهما. هذا العنبر الذي تحوّل إلى لغزٍ وكرة إتهاماتٍ جديدة يتقاذفها اللبنانيون فيما بينهم على ملعب خلافاتهم السياسية والطائفية.

ألسنة النار هذه لم تنتظر كثيراً حتى تتحول إلى إنفجار مدوٍ لم تشعر معه ليديا إلا وقد طارت من سريرها وارتطمت بحائط غرفة الجلوس قبل أن تقع مغمياً عليها وتسقط فوقها الواجهة الزجاجية للشرفة ليخرق الزجاج جسدها الذي تحوّل الى نافورة دماء، ولكي تكتمل المأساة جاءت الصدمة الثانية والأعنف عندما انهار الحائط فوقها فاختفت ليديا تحت الركام وأغمي عليها تماماً، وسط صراخ الزوج عصام الذي بدوره أصيب بجروحٍ بليغة، ولكنه لم يفقد وعيه، بل راح يبحث عن زوجته كالمجنون تحت الأنقاض.

ولإن النخوة لا تنقص الشبان اللبنانيين حتى في أحلك الظروف. أندفع عدد كبير منهم للمساعدة، دخلوا الى المنازل وراحوا يبحثون عن الأحياء بين الخراب والدمار ونقلهم إلى المستشفيات. وسط هذا المشهد تم العثور على ليديا تحت الانقاض مغمى عليها بالكامل، لكنها كانت لاتزال تنتفس. أكثر من مستشفى أعتذر عن أستقبالها بسبب وجود عدد كبيرمن المصابين الذين ملأوا كل الأمكنة، فلم يعد هناك من مكان يتسع لأي حالة. واخيراً بعد جهدٍ وصلت ليديا إلى مستشفى "مار يوسف" الذي استقبلها. في غرفة العمليات تدخلت العناية الإلهية لمساعدة الأطباء على أنقاذها. فانتظمت دقات قلبها من جديد بعد أن كادت تتوقف نهائياً عن الخفقان بسبب النزيف الحاد وانقطاع الأوردة الدموية. أكثر من شهرٍ أمضته ليديا في المستشفى خرجت بعدها بجسدٍ مثخن بالجراح مخيّط بِإكثر من الف وخمسمئة قطبة، فاقدة حاسة السمع بالكامل على الرغم من كل المحاولات الطبية لانقاذ أذنيها اللتين كانتا من أكثر الأجزاء تضرراً في جسمها.

ما حدث في الرابع من آب هو مأساة العصر.
من يعيد الروح إلى أجسادٍ تطايرت وتقطعت وأصبحت تحت التراب؟
من يعيد الى أجسادٍ تشظت، وكُتب عليها أن تعيش عليلةً بما تبقى لها من العمر؟
والأهم من ذلك أين صوت العدالة في كل ماحدث من كوراث؟ من يعطي هؤلاء الضحايا حقهم في المحاسبة والتعويض؟

Arabic