اغترب لسنوات وعاد الى لبنان مفضلاً العيش فيه دون سائر البلدان.. لكن أحداً لم يكن يتوقع أن تهدر حقوقه وثهان كرامته في البلد الذي أحب.
هو جان سعيد روكز نعمة إبن بلدة دير القمر الشوفية، وصغير العائلة التي رُزقت بثلاث فتيات وثلاثة صبيان. كان طفلاً محبوباً ذكياً ومجتهداً، برز حبّه للغة العربية منذ الصغر فكتب القصائد الشعرية. تعلّم في مدرسة الفرير المريميين في البلدة. ثم انتقل الى بيروت حيث التحق بجامعة القديس يوسف ونال إجازة في الحقوق، وكان من التلامذة اللامعين في دورته بشهادة زملائه. سرعان ما هاجر الى كينشاسا الكونغو في أفريقيا في أوائل الستينات حيث عمل كمدرس ثمّ انخرط في الأعمال التجارية بفضل حبّه للمغامرة فجمع ثروة وحقق النجاح والشهرة وأصبح من الشخصيات اللبنانية البارزة في بلاد الإغتراب.
تزوّج في باريس من ابنة خاله جومانا حنين وأنجبا ثلاثة أولاد يارا التي خسرها في ريعان الشباب إثر إصابتها بمرض عضال فشكل فقدانها فاجعة للعائلة، وحزّ رحيلها في قلبه الحنون طوال حياته، وكارين وشارل جان أصبح يتنقل بين أفريقيا وفرنسا حيث سكنت عائلته، وبعد أن حقق معظم أحلامه، عاد الى بيروت ليستريح من مشقات الحياة.
غرف بآدميته وكرمه وبإعانته ليس فقط أفراد عائلته وأقاربه، بل كل لبناني كان يقصده للمساعدة.
مساء الثلاثاء المشؤوم، خرج جان برفقة زوجته وتوجها سيراً على الأقدام من منزلهما الكائن قرب مستشفى رزق في الأشرفية، على ما يروي إبن خاله المحامي فادي حنين الى مجمع الـ "آ.بي.سي" " كالعادة، للجلوس في أحد مقاهيه وارتشاف القهوة. وقع الإنفجار الأول ثم الثاني، فسقط عليهما الحديد والركام من الأبنية المجاورة. أصيبت جومانا بيدها وظهرها وسرعان ما قامت من تحت الركام تبحث عن زوجها فلم تجده من كثرة الغبار. فصارت تصرخ: "جان، جان". فأشار أحد المارة الى رجل ممدد أرضاً. فالتفتت لتجده فاقدا للوعي، مصاباً برأسه الذي أحاطت الدماء، وبكتفه وبيده . طلبت الإسعاف على الفور، فنقلتهما الى مستشفيات المنطقة التي دمرت بفعل الإنفجار ولم تستقبلهما، حتى وصلت بهما الى مستشفى جبل لبنان حيث تمت معالجة جراحهما. غير أن صحة جان لم تتحسّن ، فنقل بعد أسبوعين الى مستشفى "أوتيل ديو" حيث يعمل إبن خاله البروفيسور خليل حنين، إلا أنه بقي يُصارع الألم والمشاكل الصحية ويخضع للعمليات لمدة شهر ونصف، الى أن أسلم الروح.
جان الذي كان مثالاً للأخلاق الحميدة وصاحب الإبتسامة التي لا تفارق وجهه، فارق عائلته وسائر محبّيه. وبدلاً من أن يُسجل لبنان اسمه بين أسماء اللبنانيين المغتربين الناجحين، سجله، مع الأسف، على لائحة ضحايا انفجار 4 آب الحزين.