ماريا حرب

نشأت ماريا حرب ضمن عائلةٍ من صلب أولوياتها الثقافة والعلم. درست في الجامعة الاميركية في بيروت، وحصلت على إجازة في علم النفس. عملت في أحدى المنظمات التي تعنى بمساعدة النازحين السوريين في لبنان. ليس مبالغاً فيها القول " أن هذه الفتاة تثير الدهشة بحيويتها، فالحديث معها يجعلك تشعر أنها تمتلك هوية فكرية واضحة ومشاعر عظيمة تجاه الآخرين." كانت ماريا قبل انفجار المرفأ من الرسامين الشباب الذين أرتبط عندهم مفهوم الفن بمفهوم الوعي، وذلك ضمن صورة واضحة عن العالم المعاصر.
في ذلك النهار الذي خرج فيه الوحش من عنبره ليدمر بيروت، كانت ماريا تجلس في أحد مقاهي منطقة "الجميزة" مع إحدى صديقاتها يواكبان غروب ذلك النهار، وهما في حالةٍ من الضغط المهني ومتابعة الأعمال اليومية من خلال مراجعة الملفات على الحاسوب. سمعت صديقة ماريا صوتاً عميقاً أتٍ من مكانٍ بعيد ولفتت نظرها اليه، لكن ماريا لم تتفاعل ولم تهتم للموضوع. ربما لأنها تستبعد بلوغ السقوط الاخلاقي لدى بعض المسؤولين الى حد جرف مدينةٍ بكاملها وطحن عظام ابنائها وتقطيع أوصالهم من أجل غاياتٍ إجرامية. وقبل أن تجيب ماريا صديقتها على تساؤلاتها كان زعيق الموت قد ضرب ضربته، وخرجت الأمور عن السيطرة وتحوّل كل شيءٍ في المقهى إلى حطامٍ طارت معه ماريا من مقعدها واستقرت تحت الأنقاض. لحظات توقف فيها ذهنها عن العمل قبل أن يعود إليها الوعي. نظرت إلى نفسها فرأت الدماء تنزف من جسمها، نادت صديقتها التي كانت بدورها تنزف أيضاً وقد أصابها أنهيار عصبي كامل.
مستعينةً باختصاصها في علم النفس، نجحت ماريا في تهدئة أعصاب صديقتها من روع ما حصل، قبل أن يأتي أشخاص لمساعدة المصابين للخروج من المقهى الى الشارع. أتصلت ماريا بوالديها اللذين كانا يصطافان في الجبل ويحاولان بدورهما الاتصال بها لمعرفة مصيرها بعد الزلزال الذي حدث، بعد ذلك بوقتٍ قصير، وصل سائق العائلة على دراجةٍ نارية ونقل ماريا وصديقتها الى مستشفى الجامعة الاميركية في بيروت.
في الطريق الى المستشفى كان كل شيءٍ ينطق بالمأساة التي حصلت. هناك في المركز الطبي في الجامعة الاميركية في بيروت كان الجرحى ينتظرون بالعشرات دورهم لتلقي العلاج. كثيرون منهم كانوا ينزفون والبعض الآخر كان يصرخ من الألم، وسط هذا المشهد الدامي تمكنت ماريا وصديقتها من تلقي العلاج الأولي هناك، وذلك قبل أن يطلب منهما الطبيب متابعة العلاج في مستشفى آخر، لأن عدد الجرحى فاق القدرة على الاستيعاب.
نقلت ماريا الى مستشفى شتورة في البقاع، الطريق الطويلة إلى هناك استنزفت قدرتها على التحمل فغلبتها الاوجاع وتحكم بها الألم.
في شتورة تبيّن أن يدها اليمنى قد أصيبت إصابةً بالغة وانقطع وتر أحد الأصابع ما جعلها غير قادرة على تحريكه. بعد تلقيها العلاج عادت ماريا الى بيروت وهي تأمل أن تستعيد نتجنب استخدام مصطلح "طبيعي" و"غير طبيعي". ربما وضعها السابق، أو عافيتها في وقتٍ قريب كما أبلغها الأطباء. لكن ذلك لم يحدث، بل العكس تماماً. فالأوجاع ازدادت واشتد الألم، توجهت مجدداً الى مستشفى الجامعة الاميركية في بيروت، حيث قرر الاطباء بعد معاينتها إجراء عمليةٍ جراحية دقيقة لها. تبين بعدها أن وضع الاصبع لن يعود الى وضعه السابق.
اليوم تعاني ماريا من تأثير الإصابة سواء في عملها أو خلال ممارستها هواية الرسم. ولكن الأهم من الإصابة الجسدية بالنسبة اليها هو الأذى النفسي الذي ألحق بها. فالاحساس بالخوف يلاحقها بشكلٍ دائم لغاية اليوم وعلى الرغم من إقامتها في بريطانيا إلا أنها لا تزال تحت تأثير الصدمة.
سؤال وحيد يؤرقها وتأمل الإجابة عليه: "هل ستتحقق العدالة وتتم محاسبة كل المتورطين في مجزرة الثلاثاء الأسود، أم أن القضية جرى إفراغها من مضمونها وتحوّلت إلى صرخةٍ في واد؟"

Arabic