أكثر من ثلاثين عاماً قضتها ماري تريز الصدي في وظيفتها كأمينة سر في أحد المصارف في بيروت. قبل أن تتقاعد بحوالي السنة من يوم الثلاثاء الأسود، في الرابع من شهر آب عام 2020. قبل ذلك التاريخ كان السكون والهدوء رفيقا حياتها الدائمين، وكانت تشعر باستمرار أن الملائكة تحيطها بالرعاية حيث ذهبت. لا سيما أنها كانت مثال للابنة الصالحة التي تعامل والديها معاملة حسنة متحلية بالمحبة والصبر والعطاء من دون أي ملل أو كلل.
في حياة ماري تريز، قبل ذلك الثلاثاء، أشياء كثيرة تُحكى عن نشاطات وهوايات كانت تمارسها بانتظام، تشكل دليلاً على الحيوية التي كانت تشع من أعماقها، والتي اختفت بعد ذلك التاريخ بسبب الاصابة التي لحقت بها. كانت تمارس رياضة المشي يومياً بعد عودتها من عملها، كذلك السباحة كانت من أبرز هواياتها لأنها تساعدها على تجديد نشاطها بعد ساعاتٍ مضنية تقضيها في الجلوس وراء المكتب تلاحق فيها طلبات الزبائن ومعاملاتهم.
في ذلك النهار، كانت ماري مستلقيةً على سريرها عندما أحست بصوتٍ قوي يرتج في السماء، وكأنه صوت طائرةٍ تحلق فوق العاصمة وتقوم باختراق جدار الصوت. نهضت بسرعةٍ وخرجت إلى الشرفة لتستطلع الأمر، وقبل أن تبلغ عتبة الباب شعرت بالأرض تتفجر من تحت قدميها، وبقوةٍ ضاغطة تدفعها بعنفٍ إلى الوراء قبل أن ترتطم بالحائط وتسقط أرضاً. لحظاتٍ فقدت فيها الإحساس بالوجود. ولدى استعادة وعيها، وجدت منزلها قد تحوّل الى كومةٍ من الحطام المتناثر، ورأت أن اللحم والعظام قد خرجا من كتفها الأيمن، ودماءها تسيل على مساحة أرض الغرفة. وكأن أحدهم أراد العبث بالممتلكات بدافع الحقد والكراهية.
لا تعلم ماري كيف خرجت من شقتها مهرولةً باتجاه الدرج نحو أسفل المبنى وهي ملطخة بالدماء. في الشارع لاقاها عدد من الشبان الذين تجمعوا ليروا ماذا حل بسكان حيّهم وشوارعه، عندما شاهدها أحدهم خلع قميصه ولف كتفها به، ثم حملها وأخذها إلى "مستشفى الجعيتاوي" القريب من المنزل سيراً على قدميه. وبوصوله إلى الطريق العام توقفت أمامه سيارة. كانت تقودها سيدة تطوعت لإكمال المهمة عنه بسيارتها.
في المستشفى كانت ماري أول الواصلين من جرحى الإنفجار ما سمح للعاملين في قسم الطوارئ بتقديم الإسعافات الأولية لها بالسرعة المطلوبة قبل أن يعج المستشفى بالمصابين. الفحوصات وصور الأشعة التي أجريت لها أظهرت أنها تحتاج الى جراحةٍ مستعجلة، ولكن إجراءها كان متعذراً في المستشفى الذي نقلت إليه، بسبب إصابة غرفة العمليات بأضرارٍ كبيرة نتيجة الانفجار، فتعطلت الخدمة فيها. أكثر من ثماني ساعات قضتها ماري على كرسيٍ في غرفة الطوارئ والى جانبها شقيقتها، قبل أن يتم نقلها بواسطة سيارة إسعاف إلى "مستشفى البوار الحكومي"، عند الساعة الواحدة ليلاً. على الرغم من الأوجاع المبرحة وخطورة حالتها، انتظرت ماري حتى اليوم التالي لإجراء العملية لها. صارح الطبيب شقيقتها بأن احتمال الشفاء الكامل هو ضئيل بسبب التهشيم الكبير الذي حصل في الأوتار وخاصة في الوتر الرئيسي الذي يحرّك اليد.
بعد خروجها من المستشفى أمضت ماري أربعة أشهر في جلسات علاجٍ فيزيائي، ولكن دون أي تحسنٍ يذكر. فكان أن قرر الطبيب إجراء عمليةٍ ثانية لها نتج عنها تحسن طفيف، ولكن اليد بقيت في جزءٍ كبيرٍ منها عاجزة عن الحركة، ومن ضمنها أصبعين. أما العملية الثالثة التي أجرتها، والتي كانت الأخيرة فظهرت النتيجة النهائية، وهي أن يدها فقدت قدرتها على الحركة بنسبة 40%.
اليوم، تعيش ماري في وضعٍ مادي صعب فهي غير قادرة على ممارسة أي عمل يتناسب مع خبرتها في مجال السكريتاريا، والتي تمرست بها طويلاً. التعويض الذي تقاضته بعد إحالتها على التقاعد وقع ضحية الأزمة العاصفة التي ضربت لبنان في تشرين الأول عام 2019.
اليوم، تعيش ماري في وضعٍ مادي صعب فهي غير قادرة على ممارسة أي عمل يتناسب مع خبرتها في مجال السكريتاريا، والتي تمرست بها طويلاً. التعويض الذي تقاضته بعد إحالتها على التقاعد وقع ضحية الأزمة العاصفة التي ضربت لبنان في تشرين الأول عام 2019. كيف تعيش اليوم ماري التي لم تتزوج من دون معيل لها سوى نفسها، تجيب بصراحة: "لقد اضطررت أكثر من مرة إلى أن أبيع أغراضاً ثمينة بقيمتها المادية والمعنوية من بيتي، كي استمر في معركتي مع الحياة". واليوم في ظل عدم وجود أي أمل بحلٍ قريب للأزمة التي يعيشها اللبنانيون، يبدو أن ماري لا تملك حلاً إلا الاستمرار في مسلسل البيع كلما دعت الحاجة، طالما أن أحداً لا يعرف إذا كان هناك حل قريب.