لايحتاج المرء الى الكثير من الوقت ليكتشف شخصية مايا خوري. هي من النوع الصلب والقادر على تحمّل الضغوطات، وإيجاد حلول لما يعترضها من صعاب. لولا ذلك لما تحمّلت ساعاتٍ عدة من الوجع والنزيف بجلدٍ وصبرٍ كبيرين من دون أن يكون أحد الى جانبها لمساعدتها قبل أن يصل أحد لإسعافها.
على الرغم من الإصابة البالغة التي ألحقت بها في يدها اليمنى من جراء مجزرة الثلاثاء الأسود، فان مايا خوري مازالت سخية في ضخ جرعاتٍ كبيرة من التفاؤل لنفسها ولمن حولها. الماضي قد مضى بالنسبة اليها، والتحدي هو الآن في صناعة المستقبل.
أكثر من ثلاثين عاماً أمضتها مايا في عملها كاختصاصية التغذية في "مستشفى القديس جاورجيوس" في بيروت. قبل أن تقرر أن تستقيل وتؤسس عيادةً خاصة بها. في ذلك النهار المشمس والجميل، والذي تحوّل بلمح البصر في ساعاتٍ ما بعد الظهر إلى سيلٍ جارف من الدماء.
كانت مايا في منزلها في الاشرفية الذي يطل على مرفأ بيروت، وذلك قبل أن تلتفت نحو الشرفة لتشاهد الواناً زهرية تتزاحم في السماء مصدرها العنابر، تتبعها أصوات مفرقعات. ظنت للوهلة الأولى أنه احتفال في أحدى المناسبات. حملت هاتفها وخرجت إلى الشرفة تلتقط الصور. وما هي إلا لحظات حتى دوّى إنفجار مزلزل دفع بها إلى الداخل فسقطت أرضاً قبل أن تهوي فوق يدها طاولة كبيرة ثقيلة الوزن في غرفة الجلوس. أول ما تبادر الى ذهن مايا أن المرفأ تعرض لغارةٍ جوية اسرائيلية، وأن طائرات العدو قد رصدتها، وهي تلتقط الصور فقامت بإستهدافها. كان هذا أول ما فكرت به مايا في زحمة تلك اللحظات المرعبة التي عاشتها مع والدتها المسنة التي تسكن معها، بالاضافة الى مدبرة المنزل من الجنسية الاثيوبية، وعندما تأكدت من أن ليس في حالتهما ما يدعو للقلق إنصرفت للاهتمام بنفسها. إتصلت بِإبن شقيقتها طالبة منه أن ينجدها، كذلك، أرسلت مدبرة المنزل لطلب المعونة من جيرانها الذين اعتذروا لأنهم بدورهم كانوا يحتاجون لمساعدة مثيلة، بسبب الاصابات التي ألحقت بعددٍ من أفراد العائلة.
مرّ أكثر من ثلاث ساعات ومايا لا تزال على الارض لاتقوى على الوقوف، تنزف فواراً من كتفها الأيمن الذي أصيب اصابةً بليغة، وقبل أن يصل أبن شقيقها وصل أحد المسعفين التابع لإحدى الجمعيات، ربط يدها وساعدها على النهوض قبل أن ينصرف الى تفقد بقية المصابين في المبنى. لحظات مضنية قضتها مايا تصارع بالصبر الآمها المبرحة بإنتظار أن يصل إبن شقيقتها لنقلها إلى المستشفى، وصل بعد معاناةٍ طويلة في الطريق، والتي تحولت بعد الانفجار إلى مشهدٍ متمم لساحة الجريمة في المرفأ. توجهت الى مستشفى ابو جودة اولاً لكنهم أعتذروا عن إستقبالها لأن غرف الطوارىء والأسرة امتلأت بالمصابين الذين وصلوا قبلها، فأقترحوا عليها التوجه نحو مستشفى المعونات في جبيل. هناك في مستشفى المعونات قضت ليلةً واحدة خضعت خلالها للتحاليل وصور الاشعة، قرر الأطباء على اثرها اجراء عمليةٍ جراحية في الكتف. إتصلت بطبيبها الذي أفادها بإنه غير متعاقدٍ مع هذا المستشفى، ففضلت عندئذ أن تجريها في المستشفى المتعاقد معه نظراً لثقتها به وبمهارته.
بعد أيامٍ عدة أمضتها في المنزل تعاني من أوجاعٍ ثقيلة، أدخلت مايا إلى مستشفى "بلفيو" حيث خضعت لعمليةٍ جراحية دقيقة ومعقدة في الكتف الأيمن تبين بنتيجتها أن التهشيم الحاصل في العظم لن يسمح بعودة الكتف إلى ما كان عليه قبل الانفجار، وأنها ستظل لديها صعوباتٍ دائمة لدى تحريكه.
اليوم على الرغم من الصعوبات التي مرّت بها إلا أن مايا جوزف خوري بقيت تستمد منها القوة ولم تفقد إيمانها بالمستقبل، وتأمل أن يأتي يوم تأخذ فيه العدالة مجراها، ولكنها غير متفائلة بإن ذلك سيتحقق قريباً.