مثال طارق حوا أبن الثامنة والعشرين عاماً كان قلباً أبيض مفتوحاً للحياة. أهالي بلدته ""بعاصير" في قضاء الشوف يقولون عنه إنه كان منظومة من القيم، تتملكه سعادة غامرة عند تقديمه أي مساعدة يقدر عليها. في المدرسة، صحيح ان "مثال حوا" لم يكن من بين المتفوقين، ولكنه مع ذلك كان له اطلالة مميزة على مادة الرياضيات وطرق تحليلها.
بعد ان عمل "مثال حوا" في مؤسسة خاصة لفترة زمنية لم تدم طويلاً، قرر البحث عن فرصة أفضل. هو الفقر والتهميش وجشع ارباب العمل، وشعور الشباب بانتقاص في حقوقهم المادية الاجتماعية: كلها أسباب تحفزهم على البحث عن حاضنة أكثر استقراراً لمستقبلهم الاجتماعي والاقتصادي ألا وهي الوظيفة الحكومية.
أكثر من دورة في سلك الاطفائية وقوى الامن الداخلي تقدم لها مثال حوا. كفاءته الجسدية والذهنية أعطته علامات متقدمة، لكن جواز المرور كان في مكان أخر: هو فروض الولاء لسياسيين وزعماء الطوائف والأحزاب. بعد عدة محاولات، أصابه القنوط وأيقن ان التجربة هي تجربة فاشلة.
عام 2017 جاء من يخبره عن مباراةِ التطويعِ في فوجِ إطفاءِ مدينةِ بيروت. فلم يهتم للأمر، لكن والدته شجعته على المحاولة من جديد. يا ترى هل كان يعلم عندما اقتنع برأيها أن اللهب سيحاصره يوماً، وأنها هي ستصبح محاصرة بالدمع طوال سني عمرها؟ في مهب الرحيل تصبح الذكريات جارحة كالسيف تزلزل الخاطر. تذكر والدته يوم عاد شهيدها الى المنزل بعد ان شارك في عملية اطفاء الحريق الكبير الذي شب في أحراج الدامور العام الماضي، وقد أرهقه التعب، يومها قال لها: "وهل هناك أجمل من الموت بلفحات النار".
سعادته من سعادة عائلته، والده المريض العاطل عن العمل كانت تدمع عيناه وهو يشاهد ابنه البكر زهرة عمره ينهض بمسؤوليات المنزل وحده دون اي شكوى او تذمّر. رافضاً مشاركة أحدٍ من أشقائه، مصرّاً عليهم الالتفات الى دراستهم فقط.
يوم الرابع من أب لم يكن يوماً كبقية الأيام بالنسبة لوالدته وبقية أفراد العائلة. قبل خروجه من المنزل في الصباح الباكر متوجهاً الى عمله، عانقته والدته طويلاً، ضمّته الى صدرها وشدّت عليه، وكأنها تدرك أن لذّة العمر مع ولدها قد اصبحت قريبة من التلاشي والاندثار.
في الساعة السادسة وعشر دقائق غاب مثال وهو يطفئ الحريق بعدما التهمه الانفجار الكبير، تاركاً لها ولرفاقه في الاطفائية ذكريات لا تنسى عن اخلاصه في العمل ولخطيبته الجميلة وعائلته حصان الشوق.