محمد أيلا العوطة

"إن على هذه الأرض ما يستحق الحياة" بيتٌ من الشعر يوصّف حياة محمد البالغ من العمر ٣١ سنة، بعد أن نزح من بعلبك إلى بيروت ليتشارك مع هذه المدينة الكثير من اطباعها، فنزع عباءته الطائفية وارتدى ثوب الحياة التي لطالما تميزت هذه العاصمة بارتدائه.
كانت وظيفة مدير محتوى في شركة "أنغامي" العمل جاهدًا في النهار ليقضي بقية يومه برفقة أصحابه. شارك محمد في ثورة ١٧ تشرين الأول وكان حلمه بلبنان يشبهه، يشبه بيروت، خالٍ من الأحقاد والنعرات الطائفية فتذوق في هذه الساحات طعم الحرية. لم يكن يؤيد أحداً، بل كان مع لبنان الأفضل، لكنه لم يكن يعلم حينَها أن البلد الذي يسعى إلى تغييره سرعان ما سيغيره ويقلب حياته رأساً على عقب.
شارك محمد في ثورة ١٧ تشرين الأول وكان حلمه بلبنان يشبهه، يشبه بيروت، خالٍ من الأحقاد والنعرات الطائفية فتذوق في هذه الساحات طعم الحرية. لم يكن يؤيد أحداً، بل كان مع لبنان الأفضل، لكنه لم يكن يعلم حينَها أن البلد الذي يسعى إلى تغييره سرعان ما سيغيره ويقلب حياته رأساً على عقب. ‏استمرت الثورة وتوالت التحركات ومضى محمد في واجبه تجاه عمله مساوياً في الوقت عَينِه واجبه الوطني الذي أخذه على عاتقه بالنسبة اليه بإنجاح الثورة. كان أسبوع الإنفجار أسبوعًا عاديًا بالنسبة إليه، روتين يومي اعتاد عليه، لا شيء مختلف، ورقةٌ تتلف على رزنامة الحياة . في ٤ آب ٢٠٢٠ تأخر محمد خلال دوامه في العمل، حيث كان يحضّر نفسه لاصطحاب رفيقته للاحتفال بعيد ميلاد صديقتهما المقرّبة. بعد أن أخذ رفيقته قرر سلك الطريق البحري، لمح دخانًا ينبعث من جهة مرفأ بيروت، وكان قد بات أمر قطع الطرق شيئا عادياً، فأخذ بهذه المسلمة ومضى، دون أن يعلم أن العد العكسي لثالث أكبر انفجار غير نووي في العالم قد بدأ وأن للطريق المستقيم مفرقٌ آخر. ومع سيره قدماً يقول محمد:" انه سمع صوت طيران او شبيهاً له، ما ان تساءل مع رفيقته إن كانت إسرائيل تقصف متمهلاً قليلاً على طريق الموت"، وإذ بالانفجار يضرب فيوقف حياة محمد ورفيقته للحظات ويعيدهما إليها.
‏ على طريقٍ مشوه وفي سيارة مدمّرة محيطة بأشلاءٍ وجثث، جلس محمد واضعاً يديه حول وجهه غيرَ مُدركٍ لما أصابه، ينظر إلى رفيقته المُلطَّخَةِ بالدماء آملا ألا تكون قد تقطعت أوصالها، أخَذَ يكلمها، لم يكن يفكر بإصابته الدامية بل خرج من السيارة وسارَ بين الجثث والأشلاء المتطايرة، إلى أن صادف كما وصفه محمد بالملاك الذي نقلهما إلى المستشفى، الذي لم يكن يستوعب حجم المصابين آنذاك جراء ما فعله الانفجار بسكان بيروت المسالمين. جروح محمد في جسده أنسته إصابته في عينه و عدم تمكنه من الرؤية ، التي بلغت حسب التقرير الطبي" نسبة الرؤية لديه أصبحت 20%" وقد علم محمد بذلك من خلال تقرير بثته مذيعة عن حالته ذكرت فيه "بأنّ طبيبه قد أخفى عليه حقيقة وضعه الصحي وهو انقسام شبكة عينه إلى نصفين، وأن المدينة التي يحبها قد غدرته." صعق محمد وفجع أهله بالخبر فانقلبت رؤيته إلى الحياة من تلك المليئة بالتحديات الجميلة الى نفقٍ مظلم.
أجريت له عمليات عدة لإستعادة نظره، تحمّل تكلفتها التأمين كونه يعمل بشركة خاصة، بعد تغطيةٍ من الدولة للذين أُصيبوا في الانفجار لمدة ثلاثة ايام فقط غير آبهة بمَن كانت إصابتهم في هذه الكارثة بليغة، ويذكر محمد أن تغطيته من جهة التأمين لم تكن متوفرة لولا تدخل صاحب الشركة التي يعمل فيها.
ثلاث عمليات خضع لها بين كل عملية وأخرى كان أمل محمد بالرؤية يزيد، إلى أن استعاد نظره من جديد، ولكنّه حتماً لن يعود لبيروت. و بعد أكثر من سنة عن توقفه عنن العمل وعدم قدرته العودة اليه، قرر محمد أن يغادر الوطن لأن أوجاعه في هذه المدينة لم تعد تحتمل البقاء. غادر محمد ومطالبه ما زالت هنا حيّة فهذا الثأر الوحيد وإن كان بعيداً عن بلده، لا يزال يطالب بحقه بالعدالة و المحاسبة والتعويض.

Arabic