محمد الريس

قبل واحد وثلاثين عاماً ولد محمد كامل الريس ابن الجنوب في بيروت. بعد تخرجه من المدرسة تخصص في ميكانيك السيارات. اجتهاده في عمله جعل سجل زبائنه يكبر ويتسع في وقتٍ قياسي، إلا أن المشهد تغير بعد الرابع من آب ٢٠٢٠.

في ذلك اليوم، والذي رفع فيه الاشقياء كؤوسهم ليحتفلوا بزوال مدينةٍ كرسها التاريخ عاصمةً للثقافة والتحرير، كان محمد مع والده ووالدته في مستشفى "الجعيتاوي". فكامل اعتاد على إجراء فحوصاتٍ دورية بين الفترة والأخرى دون أن يشكو من أي مرضٍ أو تعب. هي كانت طريقته في الحياة بعد أن تخطى سن الأربعين.

فجأة ومن دون أي سابق إنذار زلزلت الأرض وخرجت شياطين جهنم تدمر كل شيء حولها. انهار سقف الغرفة وتناثر زجاج الشبابيك، ولم يشعر محمد بنفسه إلا وهو يطير في الهواء قبل أن يرتطم جسمه بالحائط ويسقط على وجهه. على الرغم من قوة الضربة لم يفقد محمد وعيه، فهو وقف وقال لوالدته وهو يترنح، والتي أصيبت هي أيضا برضوضٍ وكسور: " يا له من كابوس"، قبل أن يعود ويسقط من جديد. نظر حوله فلم يجد والده، وفي لحظاتٍ اكتشف أنه تحت الردم، وعندما وضع يده على عينه التي كانت قد بدأت تؤلمه، شعر بالدم يسيل منها فواراً. في تلك اللحظات، كانت أحدى الممرضات قد هرعت إلى الغرفة، وأجرت له بعض الإسعافات الأولية قبل أن تساعده بالمشي إلى خارج المستشفى. حيث صودف هناك وجود متطوعة حضرت للمساعدة، والتي قامت بوضعه في سيارتها لإيصاله إلى أقرب مستشفى.

أكثر من أربع ساعات أمضتها تلك الشابة، وهي تجول بين المستشفيات، ولكن من دون جدوى. فعدد الجرحى كان قد فاق القدرة على الإستيعاب. أربع ساعات ومحمد يكاد أن يهلك من التعب والألم قبل أن تتمكن تلك السيدة من الوصول به إلى مستشفى "الرسول ألاعظم" حيث أسعفه الحظ بكرسيٍ في غرفة الطورائ تم إجلاسه عليها. سبع ساعات أمضاها في وجعٍ لا يطاق قبل أن يتم إدخاله إلى غرفة العمليات، خرج بعدها ليواجه الأمر الواقع. عيناه اللتان كانتا تشعان بألامل والفرح انطفأت اليمنى منهما تاركةً أختها تكمل حياتها وحدها. استئصالها كان تجنباً لمضاعفات خطيرة قد تهدد حياته. رئتاه لم تسلما أيضا أصيبتا بشظايا من الزجاج الذي تناثر، ما ترك لديه صعوبات في التنفس وهو نائم.

الميكانيكي الماهر تغيرت حياته اليوم . فهو لم يعد قادراً على ممارسة مهنته السابقة تأكد له ذلك بالتجربة، فكان أن تحول الى عملٍ آخر، وهو إعطاء دروس تقوية لطلاب في المرحلة الابتدائية.

قبل الرابع من آب أيضاً لم يكن محمد يترك مجالاً للكسل والخمول يتسللان إلى داخله. كان ينتظر إنتهاء دوام عمله ليأخذ والده ويذهبان لممارسة رياضة المشي والسباحة. اليوم، تغير المشهد فهو لاينفك يشعر بوالده يناديه قائلاً: "ما لي أراك تجول في الطريق حائراً ينبغي ألا ترهبك الشدائد، عد إلى الوعي والصبر اللذين كنت فيهما، ومارس حياتك دون تشاؤم أو انهزامية".

اليوم وبعد ثلاث سنوات ها هو محمد الريس يكمل حياته. لا يريد أن ينكأ جراح روحه من جديد، حزنه كثيف وكثيف جداً، ليس فقط على ما حل به وبوالده الذي خطفه القدر ، وهو في عز عزيمته، بل أيضاً على وطن يرزح تحت العبثية والجنون، ويقبل ويرضى بالتأقلم.

Arabic