بين الأرصفة والعنابر تجوّل محي الدين الخطيب، الذي لم يكن خافياً عليه أن الخطر يلاحقه دائماً. عاش حياته بشكلٍ طبيعي مبدداً هواجسه التي تحيط به خلال ساعات عمله في مرفأ بيروت بمشاهدة الغروب والحمام المتطاير عبر "كزدورةٍ" بالسيارة لترد له الروح بمشهدٍ وصفه بالمفرح. جاء الرابع من آب وعكر صفو محي الدين وانقلب المشهد رأساً على عقب.
كان ذلك اليوم، يوم عملٍ عادي في حياة محي الدين كمسؤولٍ عن العمال في المرفأ. عند الساعة الخامسة من عصر بيروت الثائرة يروي مشاهداته عن تظاهراتٍ أمام وزارة الطاقة، بالإضافة إلى زحمة السير الخانقة التي احتلت الأزقة والشوارع المحيطة بمبنى الوزارة كأي يوم "ثورة عادي". يستطيع تذكر أصغر التفاصيل خلال هذا النهار، ويشرح بدقةٍ ما حصل أمام الرصيف 16 قبل دوي الانفجار الأول. عند الساعة 5:55 تحديداً بدأ بسماع أصوات المفرقعات، فركب سيارة زميله متوجهاً نحو العنبر رقم 12، ومع اقترابه من المكان بدأ يلاحظ اللهيب الذي يأكل جدران العنبر، دقت ساعة الصفر وعند الساعة 6:07 بتوقيت بيروت وقع الانفجار الأول، حاول ركوب السيارة للهروب فغدره الانفجار الثاني ليردد محي الدين متنهداً "أصبحت بخبر كان!".
جراء عصف الانفجار، غاب محي الدين عن الوعي لثوانٍ معدودة، وعندما استيقظ، بدأ يركض إلى وجهةٍ غير محددة بين الحديد المتطاير والحجارة والركام للبحث عن مكانٍ آمن. لم ير سوى وجوهٍ مضرجةٍ بالدماء، وكان همه هو معرفة ما هو السائل الساخن الذي يحرق وجهه بالإضافة إلى الدماء التي تنزف من أذنيه. مع كل هذه الثواني القليلة مئات الأحداث التي شاهدها محي الدين الذي أخيراً وصل إلى منطقة الكارنتينا حيث مبنى الشركة لتنهال عليه الأسئلة عن زملائه ليردد عبارة واحدة وهي "مات" و "ماتوا".
من الكارنتينا إلى "مستشفى الوردية" المدمرة و"أوتيل ديو" استقر أخيراً في "مستشفى حمود". خلال الطريق، لم يجد سبيلاً للتعبير سوى البكاء من فظاعة ما شاهد وما سمع. عبر محي الدين مع جراحه بين الدمار والركام وبدأ مسيرة العلاج الطويلة، فترك له الانفجار حروقاً تحولت إلى "أكزيما"، بالإضافة إلى ضعفٍ شديد بحاسة السمع والتشويش في أذنه اليمنى وسلسلة من الأمراض كارتفاع ضغط الدم والتوتر الشديد والعصبية المفرطة، فصرف كل ما يملك على علاجه المستمر حتى الآن.
محي الدين يريد الحقيقة، ولا شيء سواها، وهو يشدد على ضرورة معرفة الجاني ومحاسبته أمام الرأي العام اللبناني، فهو حتى الآن غير قادر على الخروج من الصدمة ويطالب الدولة اللبنانية بالتحقيق.