تحتاج بلدة "صغار" في قضاء جبيل إلى وقت لتتعوّد على غياب طانيوس أنطون، الشّاب الوسيم الذي كان يزرع الرّبيع في كل خطوة من خطواته. لقب "المغوار" لم يأتيه من فراغ، فهو كان كاللّهب المشتعل في شجاعته ونخوته.

في حياة طانيوس أنطون أيام مثقلة بحبّ النّاس له، كانوا يخرجون لملاقاته كلّ يوم: يشترون الخبز منه ويفتحون معه باباً للأحاديث الشّيّقة والجميلة. "من دونه أصبح الشّارع فارغاً وحزيناً" يقول أحد أبناء القرية. عازف الغيتار، وبطل لعب الطاولة.رحل دون أن يلقي السّلام.

في حياة طانيوس أيضاً أن قلبه كان غارقاً بالإيمان. إيمانه بالسّيد المسيح كان كسيف مشع.هو صديقه الدّائم.لا يخلد إلى النّوم قبل أن يناديه من أعماق الجوارح.

باكراً تعلّق قلب طانيوس أنطون بغادة عبد الله. كانت بالنّسبة له ساحرة الحسن، قالت له: سأكون دوماً معك ارتبطا بسر الزّواج المقدّس الذي يبقى إلى الأبد. وفي ليلة مفاجئة صاح القدر صيحته المرعبة، غابت غادة بجسدها، وغرق طانيوس في أحزان الذّكريات."

نزلت غادة في محطة الغياب تاركة خلفها طفلتين هما ماريانا وديانا، أصغرهما كانت لا تزال رضيعة في أيامها الأربعين بعد ولادتها، والكبيرة لم تبلغ بعد من العمر أصابع اليد الواحدة. رحلتْ غادة تاركة طانيوس يصارع السّؤال الصّعب ماذا من بعد غادة؟ بقيت حتى اليوم الأخير من حياته ملكة المكان والزّمان، ولأنّ الحياة يجب أن تستمر. تحوّل طانيوس وحده إلى العين السّاهرة، إحتضن ابنتيه كما يحضن النّدى الورد. بسرعةٍ مرّ الوقت وكبرت الطّفلتان وأصبحَتا نجمتين مضيئتين، سطوعُهما الجميل في الحياة كان حديث أهل القرية دائماً.

ثلاثة وخمسون عاماً كان عمر طانيوس أنطون عندما اختاره الرّب إلى جواره. قبل أن يزوره الموت في لحظة إنفجار، كانت عناكب المرض قد بدأت تنسج خيوطها حول جسده. لم يخبر أحداً، فهو المغوار الذي اعتاد العراك مع الحياة واعتاد أن يكسب الرّهان. كان في مستشفى القدّيس جاورجيوس في الأشرفيّة على سرير المرض عندما أفلتت جمرات الموت من سجنها الطّويل وراحت تجمع الضّحايا من حولها في لحظة جنون جارف. هي لحظات لم ينجُ منها طانيوس إذ أنّ الزّجاج المتناثر أصاب صدره الملتهب بالمرض. بعد انفجار الغدر تمّ نقل طانيوس إلى مستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت حيث أُجريت له عمليّتان جراحيّتين.

شهرٌ قضاهُ طانيوس في المستشفى محاطاً بشفاه تدعو له بالخلاص، قبل أن ينطفئ الضّوء من العينين ويرحل طانيوس كطيف.