وهيب أبي عاد

هو وهيب أبي عاد، إن لم تقل شيئاً عنه، فيكفي أن تقول أنّه الرّجل الآدمي المجاهر بالحقّ دائماً وأبداً، والذي قضى عمره لاهثاً وراء لقمة عيشه بالحلال.

ابن "دفون" الواقعة في قضاء عاليه، كبر وحبّه للأرض كبر معه. كانت هي عمره وشعاع حياته، لم يتنكّر لها يوماً، كان يأتيها في نهاية كلّ أسبوع وكأنّه يكتشفها للمرّة الأولى: يزرعها، يرويها ويقطف ثماراً كالشّمس إن أطلّت.

في القرية لم يكن وهيب يصحو بمزاج متعكّر. هناك كانت كلّ الهموم تتبخّر. وكانت قهقهاته مع جيرانه وأصحابه تملأ الدّار حتى طلوع الفجر، يرفعون الكؤوس ويحتسون القهوة.

في حياة وهيب أيضاً عشقه للفنّ والموسيقى. محتمياً بالفجر، كان وهيب يخرج كل يوم من بيته ليعمل على سيّارة الأجرة خاصّتهُ على صوت فيروز الذي كان يتدفّق في شرايينه قبل أذنيه.

كان متفائلاً دائماً، لم يرضَ يوماً أن يقف كتلميذ وجهه إلى الحائط مستسلماً إلى مصاعب الحياة. كان وجهه مشدوداً دائماً نحو النّور، وكان شعاره الدّائم :"إنهض أيّها العاجز".

رزق وهيب بولد وحيد:كريم، الذي كان بالنّسبة له أمير اللّحظات ورؤى الرّوح، كانا دوماً معاً. كانت الأشياء تبدو جميلة أكثر مع وهيب، فكلامه مع ابنه كان دائماً بطعم الفاكهة. كانت حياته مرهونة براحة كريم ومستقبله.

على الرغم حقيقة أنّنا كلنا سنرحل ونستسلم للقدر مهما تحايلنا، بعضنا لا يموت دفعة واحدة بل يموت على دفعات. من أين أتى ذلك المرض الذي نهرب من اسمه؟ جاء ذلك الذي نسميه "الخبيث" ليصيب وهيب في رئتيه. خبر إصابته تلقّاه وهيب بهدوء وكأنه مصاب بعسر هضم لا أكثر.

في المستشفى كان وهيب يخرج ليعود مرّة كل حين لتلقّي العلاج. على سريره كان يبتسم، وكأنّ الأيّام المقبلة تحمل إليه أشياء جميلة. ظلّ يرتّب أموره بهدوء ويخرج إلى عمله بفرح وأناقة، ولم ينل من عزيمته العلاج السّام والمعدّات الطّبيّة وأجهزة الأشعة. كان ينظر إليها ويبتسم.

في الرّابع من آب كان وهيب في مستشفى القدّيس جاورجيوس في الأشرفيّة يخضع للعلاج: الأطباء يدخلون ويخرجون ويعطون التّعليمات وهو يصغي بهدوء مطلق ولا يجادل. في ذلك اليوم لم يكن أحد يدري أنّ المدينة ستترمّد وأنّ غيمة برائحة الدّم ستنْتشر في الهواء.

هي لحظات غير محسوبة تحوّلت فيها الغرفة إلى حطام، وقضى فيها وهيب باللّون الأسود بعد أن كان يعدّ نفسه لميتة على سرير أبيض.

Arabic