عباس مظلوم

انضم الجريح عباس مظلوم إلى قافلة ضحايا الرابع من آب ٢٠٢٠ يوم ٢٧ تشرين الأول ٢٠٢١، مُعلنًا بعد أربعة عشر شهرًا ونيف إستسلامه لآلامه وأوجاعه.

بين جدران المستشفيات الباردة وغرفة شقته الضيقة، أمضى عباس أيامه مُصابًا في ظهره، مشلول الحركة، عاجزًا، مستلقياً على الفراش، يحتاج لمساعدة بحال أراد التحرك أو التنقل من مكان الى آخر.

"أنا الحي الميّت" هكذا عرّف عباس عن نفسه خلال مقابلة كنا قد أجريناها معه قبل أسابيع معدودة من رحيله.

وُلد عباس في عين الجوزة - بريتال، يوم العاشر من شباط عام ١٩٧٧، في كنف عائلة الحاج أحمد والحاجة زينب مظلوم. نشأ وترعرع بين اخوته العشرة. لم تكن ظروف الحياة الإقتصادية انذاك تسمح بأن يُكمل تحصيله العلمي، فترك المدرسة وكان لا يزال في الصف الخامس ابتدائي. وبدأ مسيرته المهنيّة باكرًا وهو لا يزال في عمر العاشرة. تنقل من عمل الى آخر: فتارة عمل ميكانيكيا وطورا حدّادا افرنجيّا، حتى استقر في عمل كان بمثابة هوى له: المطبخ. بدأت مسيرته المهنيّة في مجال المطاعم والطبخ. صحيح أنّ عباس لم يتخصص في مجال الفندقية، الاّ أنه امتهن هذا المجال بجدارة وتميّز بمأكولاته الشرقية والغربية وخاصة الايطالية منها.

عمل عبّاس في مطاعم عدة، واستقر اخيرا في مطعم Tavolina- مار مخايل في العام 2012.

حلم عباس بحياة رغيدة له ولعائلته، تصدرته أمنية امتلاك منزل في ضيعته، وتأسيس محال تجارية لأولاده تؤمن مستقبلهم دون الحاجة لطلب المساعدة من الغير، تجنبًا للمصير الذي مرّ به.

وجاء الانفجار ليصيب احلام عباس في الصميم، ويصيب جسده ورأسه ويقعده عاجزا في الفراش..

عباس الكريم، الحنون المحب والمخلص، لم يكن فقط الزوج، تشارك ورفيقة دربه ولاء حياة ملؤها الطمأنينة والهدوء" اولادهما الخمسة، لم يتجاوز البكر فيهم سنواته التسع، إلى أنّ حلّت كارثة تفجير مرفأ بيروت، وتبددت الأحوال وبات الحزن والهم ملازمين لعباس اثر اصابته البليغة في ظهره، واحساسه بالعجز عن تلبية متطلبات عائلته.. عانى عباس اجحاف دولته اللبنانية بما فيها وزارة الصحة والضمان الإجتماعي، فهي لم تنصفه كجريح جرّاء التفجير، ولا كمعوّق للاستفادة من الطبابة والتقديمات الإجتماعية. وكان لتُجار المستشفيات دور بارز في تأخير علاج عباس بشكل سريع. فترنح العلاج، وكانت الاعذار متعددة، مرة بحجة ان الضمان يسدد النفقات على السعر القديم للدولار ولا يمكن للمستشفى ان تتحمل عبء الفرق.

وهكذا مرّت الأيام، وبمبادرات إنسانية محلية جُمع مبلغ من المال ليخضع عباس في شهر أيلول 2021، لعملية في ظهره في مستشفى بخعازي بعدما بدأ يعاني من انحناء في ظهره نتيجة عملية سابقة باءت بالفشل، حيث زُرعت في ظهره بعد إصابته في الإنفجار، أسياخ حديدية مخصّصة لكسور الأرجل ولا يصلح استعمالها لكسر الظهر.

أصيب عبّاس قبل يومين من وفاته بزكام، "تغيّر عليه الطقس"بعد أن ترك مسكنه في الأشرفية قاصدًا ضيعته لرؤية أطفاله الخمسة الذي ابتعد عنهم طيلة فترة علاجه، ليتوقف قلبه عن النبض يوم الإثنين اثر نوبة قلبية.

رحل عباس وبقي اثره الطيب في نفوس كل من عرفه، ووصيته الأولى والأخيره الإهتمام بأولاده وتأمين لهم حياة هنية. فرح عباس بنجاته من الموت بعد أن وثقت ذاكرته يوم الرابع من آب بحذافيره، من لحظة سماع المفرقعات في العنبر، لمشاهدة الحريق الأول، إلى أن دوى الإنفجار الثاني وشاهد "الدني ليل وغبار"، روى مشاهداته للدمار والجرحى والصريخ وذهابه للمستشفى بنفسه والتحدث إلى المرضى عن وضعه الصحي. ويُذكر بأن عباس قبل وفاته كان يستعدّ للإشراف على برنامج طبخ عبر تطبيق إنستغرام يستضيف شخصيات معرفة ويكون عباس مشرفاً عليه ويبدي النصائح ويقدّم المشورة، إلاّ أن حلمه لم ينصفه.

Arabic