
كلوديا اللّقيس
هي بالنّسبة لزوجها وعائلتها جمال يغني وكتاب السّحر، بعدها لم يعد للحياة إسم جـميل. خمسة وأربعون عاماً هو العمر الذي عاشته هذه الصّبية ابنة زغرتا، قبل أن تحترق في الحضن الأسود لدولة كان حكّامها نيام تحت شمس ذلك النّهار الذي هبطت فيه النّار على الطّرقات والبيوت فأخذت معها الأحباب إلى خلف جدارٍ بارد.
كلوديا اللّقيس هي إسم مميّز في لائحة الأسماء الذين تخرّجوا معها من الجامعة الأميركيّة في بيروت. هي المهندسة الكهربائيّة التي اشتغلت بجد ونشاط في كل المواقع التي عملت فيها، وآخرها كان في مشروع مع إحدى الشّركات لتحديث قطاع الكهرباء في لبنان. شخصيّتها القياديّة كانت تُشعر جميع من حولها بالهدوء والطّمأنينة وبقيمتِهم الإنسانيّة.
ظالمة هي الحياة أحياناً. تأخذ في لحظة غير منتظرة من كانوا كالعطر في البراعم.لم تكن كلوديا اللّقيس مجليّة في عملها فقط. ثقافتها الواسعة جعلت منها موسوعة في الجوانب الإقتصاديّة والإجتماعيّة والأدبيّة. كانت نسيجاً من الأفكار والمعتقدات الخلّاقة".يقول هنري زوجها.
قد يغيب المرء ولكن حضوره النّقي لا يموت، فكلودْيا لا تزال حاضرة في أساليب التّفكير وأشكال السّلوك وفي النّهم إلى العلم والمعرفة عند ابنتيْها.
قبل حوالي شهر من الرّابع من آب، اقترحت على زوجها أن يرحلوا صوب بلد آخر. لقد سئمت سواد الوضع في وطنها وباتت تخاف على مستقبل ابنتيْها أن يذهب سدى.
بين الموت والحياة فارق لحظات يأتي وميضها خاطفاً كرصاصةٍ مصوّبة نحو القلب. في ذلك اليوم قرّرت "كلوديا في اللّحظات الأخيرة أن تبقى في المكتب في شركة كهرباء لبنان. كان هناك اجتماع في اليوم التّالي ويجب أن تُعد له جيداً. اتّصلت بزوجها وقالت له إنها قررت تأجيل موعد ذهابهم إلى "السّوبرماركت" إلى يوم أخر. بعد أن غادر جميع فريق عملها، بقيت هي وحدها في المكتب.
عندما انفجر مستودع الموت، اتّصل هنري بزوجته: الهاتف لا يرن، الصّمت هو الجواب. هرع إلى المكان وهو يحسّ انه سينتظرُها بعد اليوم باشتياق.
في الطّريق إلى شركة كهرباء لبنان، وحده الموت كان يعربد على الطّرقات. وصل هنري وكانت التّعاسة تملأ المكان، صعد إلى مكتب زوجته، بحث عنها بين الرّكام، كان الأسود يجمع كل الألوان.
ماذا ينتظر اللّبنانيون بعد؟ فلقد انهالت عليهم جميعاً دون تفرقة كل المحاولات القاتلة وجرّدتهم من كل شيء حتى أنّهم أصبحوا يشبهون اللّا شيء.
احترقت "كلوديا"، أصبحت ذكرى أبديّة. حملها بيديه كطفل مولود، مغمضاً عينيه.